كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وسنرى في هذا المقطع كل الظواهر التي تحدثنا عنها في تقديم السورة كما يصورها السياق القرآني. ونحسب أنها ستكون مفهومة واضحة في ضوء ذلك التقديم الذي أسفلنا.
{لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون}..
لو كان الأمر أمر عرض قريب من أعراض هذه الأرض، وأمر سفر قصير الأمد مأمون العاقبة لاتبعوك ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة. ولكنه الجهد الخطر الذي تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة. ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبنية المهزولة.
وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه تلك الكلمات الخالدة:
{لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة}..
فكثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى الآفاق الكريمة. كثيرون أولئك الذين يجهدون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عرض تافه أو مطلب رخيص. كثيرون تعرفهم البشرية في كل زمان وفي كل مكان، فما هي قلة عارضة، إنما هي النموذج المكرور. وإنهم ليعيشون على حاشية الحياة، وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع ونالوا مطالب، واجتنبوا أداء الثمن الغالي، فالثمن القليل لا يشتري سوى التافه الرخيص!
{وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم}..
فهو الكذب المصاحب للضعف أبداً. وما يكذب إلا الضعفاء. أجل ما يكذب إلا ضعيف ولو بدا في صورة الأقوياء الجبارين في بعض الأحايين. فالقوي يواجه والضعيف يداور. وما تتخلف هذه القاعدة في موقف من المواقف ولا في يوم من الأيام..
{يهلكون أنفسهم}..
بهذا الحلف وبهذا الكذب، الذي يخيل إليهم أنه سبيل النجاة عند الناس، والله يعلم الحق، ويكشفه للناس، فيهلك الكاذب في الدنيا بكذبه، ويهلك في الآخرة يوم لا يجدي النكران.
{والله يعلم إِنهم لكاذبون}..
{عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}..
إنه لطف الله برسوله، فهو يعجل له بالعفو قبل العتاب. فلقد تدارى المتخلفون خلف إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود حين قدموا له المعاذير. وقبل أن ينكشف صدقهم من كذبهم في هذه المعاذير وكانوا سيتخلفون عن الركب حتى ولو لم يأذن لهم. فعندئذ تتكشف حقيقتهم، ويسقط عنهم ثوب النفاق، ويظهرون للناس على طبيعتهم، ولا يتوارون خلف إذن الرسول.
وإذا لم يكن ذلك فإن القرآن يتولى كشفهم، ويقرر القواعد التي يمتاز بها المؤمنون والمنافقون.
{لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}.
وهذه هي القاعدة التي لا تخطئ. فالذين يؤمنون بالله، ويعتقدون بيوم الجزاء، لا ينتظرون أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد؛ ولا يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرواح؛ بل يسارعون إليها خفافاً وثقالاً كما أمرهم الله، طاعة لأمره، ويقيناً بلقائه، وثقة بجزائه، وابتغاء لرضاه. وإنهم ليتطوعون تطوعاً فلا يحتاجون إلى من يستحثهم، فضلاً عن الإذن لهم. إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأون ويتلمسون المعاذير، لعل عائقاً من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها، وهم يرتابون فيها ويترددون.
إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة، فما يتردد ويتلكأ إلا الذي لا يعرف الطريق، أو الذي يعرفها ويتنكبها اتقاء لمتاعب الطريق!
ولقد كان أولئك المتخلفون ذوي قدرة على الخروج، لديهم وسائله، وعندهم عدته:
{ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}..
وقد كان فيهم عبد الله بن أبي بن أبي سلول، وكان فيهم الجد بن قيس، وكانوا أشرافاً في قومهم أثرياء.
{ولكن كره الله انبعاثهم}..
لما يعلمه من طبيعتهم ونفاقهم، ونواياهم المنطوية على السوء للمسلمين كما سيجيء.
{فثبطهم}..
ولم يبعث فيهم الهمة للخروج.
{وقيل اقعدوا مع القاعدين}..
وتخلفوا مع العجائز والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون الغزو، ولا ينبعثون للجهاد. فهذا مكانكم اللائق بالهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخاوية من اليقين.
وكان ذلك خيراً للدعوة وخيراً للمسلمين:
{لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين}..
والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش؛ ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم اضطراباً وفوضى. ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل. وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين.
ولكن الله الذي يرعى دعوته ويكلأ رجالها المخلصين، كفى المؤمنين الفتنة، فترك المنافقين المتخاذلين قاعدين:
{والله عليم بالظالمين}..
والظالمون هنا معناهم المشركون فقد ضمهم كذلك إلى زمرة المشركين!
وإن ماضيهم ليشهد بدخل نفوسهم، وسوء طويتهم، فلقد وقفوا في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وبذلوا ما في طوقهم، حتى غلبوا على أمرهم فاستسلموا وفي القلب ما فيه:
{لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون}..
وكان ذلك عند مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قبل أن يظهره الله على أعدائه. ثم جاء الحق وانتصرت كلمة الله فحنوا لها رؤوسهم وهم كارهون، وظلوا يتربصون الدوائر بالإسلام والمسلمين.
ثم يأخذ السياق في عرض نماذج منهم ومن معاذيرهم المفتراة؛ ثم يكشف عما تنطوي عليه صدورهم من التربص بالرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين:
{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون}.
روى محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة قالوا: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وهو في جهازه (أي لغزوة تبوك) للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر؟» (يعني الروم) فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك» ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية.
بمثل هذه المعاذير كان المنافقون يعتذرون. والرد عليهم:
{ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}..
والتعبير يرسم مشهداً كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون؛ وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم، وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فلا يفلتون. كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتماً، جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير. وتقريراً لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون.
إنهم لا يريدون بالرسول خيراً ولا بالمسلمين؛ وإنهم ليسؤوهم أن يجد الرسول والمسلمون خيراً:
{إن تصبك حسنة تسؤهم}..
وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة:
{وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل}.
واحتطنا ألا نصاب مع المسلمين بشرّ، وتخلفنا عن الكفاح والغزو!
{ويتولوا وهم فرحون}..
بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بلاء.
ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور، ويحسبون البلاء شراً في كل حال، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود. وقد خلت قلوبهم من التسليم لله، والرضى بقدره، واعتقاد الخير فيه. والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم لا يخشى، اعتقاداً بأن ما يصيبه من خير أو شر معقود بإرادة الله، وأن الله ناصر له ومعين:
{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون}..
والله قد كتب للمؤمنين النصر، ووعدهم به في النهاية، فمهما يصبهم من شدة، ومهما يلاقوا من ابتلاء؛ فهو إعداد للنصر الموعود، ليناله المؤمنون عن بينة، وبعد تمحيص، وبوسائله التي اقتضتها سنة الله، نصراً عزيزاً لا رخيصاً، وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتلاء، صابرة على كل تضحية. والله هو الناصر وهو المعين:
{وعلى الله فليتوكل المؤمنون}..
والاعتقاد بقدر الله، والتوكل الكامل على الله، لا ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق. فذلك أمر الله الصريح:
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...} وما يتكل على الله حق الاتكال من لا ينفذ أمر الله، ومن لا يأخذ بالأسباب، ومن لا يدرك سنة الله الجارية التي لا تحابي أحداً، ولا تراعي خاطر إنسان!
على أن المؤمن أمره كله خير. سواء نال النصر أو نال الشهادة. والكافر أمره كله شر سواء أصابه عذاب الله المباشر أو على أيدي المؤمنين:
{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون}..
فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين؟ إنها الحسنى على كل حال. النصر الذي تعلو به كلمة الله، فهو جزاؤهم في هذه الأرض. أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند الله. وماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين؟ إنه عذاب الله يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين؛ أو ببطش المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين.. {فتربصوا إنا معكم متربصون} والعاقبة معروفة.. والعاقبة للمؤمنين.
ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين، قد عرض ماله، وهو يعتذر عن الجهاد، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان. فرد الله عليهم مناورتهم، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند الله، لأنهم إنما ينفقونه عن رياء وخوف، لا عن إيمان وثقة، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم، فهو في الحالتين مردود، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند الله:
{قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين.
وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلى وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}..
إنها صورة المنافقين في كل آن. خوف ومداراة، وقلب منحرف وضمير مدخول. ومظاهر خالية من الروح، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير.
والتعبير القرآني الدقيق:
{ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى}..
فهم يأتونها مظهراً بلا حقيقة، ولا يقيمونها إقامة واستقامة. يأتونها كسالى لأن الباعث عليها لا ينبثق من أعماق الضمير، إنما يدفعون إليها دفعاً، فيحسون أنهم عليها مسخرون! وكذلك ينفقون ما ينفقون كارهين مكرهين.
وما كان الله ليقبل هذه الحركات الظاهرة التي لا تحدو إليها عقيدة، ولا يصاحبها شعور دافع. فالباعث هو عمدة العمل والنية هي مقياسه الصحيح.
ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد، وذوي جاه في قومهم وشرف. ولكن هذا كله ليس بشيء عند الله. وكذلك يجب ألا يكون شيئاً عند الرسول والمؤمنين. فما هي بنعمة يسبغها الله عليهم ليهنأوا بها، إنما هي الفتنة يسوقها الله إليهم ويعذبهم بها:
{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}.
إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة، والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى الله، فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس، واثق من المصير. كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب، فإذا السكينة النفسية تغمره. والأمل في الله يسري عنه.. وقد تكون نقمة يصيب الله بها عبداً من عباده، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا، وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب!